June2010Banner

 


البعوض والسنونو

جاءَ فصلُ الربيعِ بأزهارهِ الجميلةِ وروائحهَا الجميلةِ، وتفتحتِ الطبيعةُ بروائعهَا، فجرتِ الأنهارُ فرحةً تتدفقُ بالماءِ، وسالتِ السواقِي بالمياهِ الرقراقةِ، واكتستِ الأشجارُ الملابسَ الخضراءَ، ونشرتِ الأزهارُ روائحهَا الشذية، واستيقظتِ الفراشاتُ والحشراتُ من نومهَا في شرانقهَا أو في أعشاشهَا، واغتنمَ البعوضُ وجودَ البحيراتِ والمستنقعاتِ والسواقِي، فراحَ يتوالدُ ويتكاثرُ، ويطيرُ يمنةً ويسرةً، ويقعُ علَى الإنسانِ والحيوانِ، فيلدغُ ويتغذَّى بالدماءِ، وينقلُ الأمراضَ المختلفة، ولا سيمَا مرض الملاريَا.
في مثلِ هذهِ الظروفِ المشتبكةِ جلسَ فايزُ في شرفةِ بيتهِ معَ أولادهِ يتمتعُ بالطبيعةِ وحسنِهَا، وفجأةً صاحَ أحدُ أولادِهِ مشتكيًا وضاربًا بيدهِ على ساعدهِ. والتفتَ الأبُ إلى ابنهِ وسألهُ: مَا بكَ؟! وقالَ الولدُ: شيءٌ مَا قرصنِي في ساعدِي. نظرَ الأبُ إلى ساعدِ ابنهِ فرأى بعوضةً ممعوسةً وبجانبهَا بعضُ الدمِ. وقالَ الأبُ: إنهُ البعوضُ يا بنيَّ الذِي يتكاثرُ في هذهِ الأوقاتِ منَ السنةِ، والتي هِي أنسبُ الأوقاتِ للتكاثرِ. وقالَ الأبُ: كيفَ يجبُ علينا أنْ نتصرفَ معَ هذهِ الحشراتِ؟
قالَ الأبُ: إنَّ أولَ واجبٍ للخلاصِ منْ هذهِ الحشراتِ هوَ أنْ تتولَّى الدولةُ بخَّ الأدويةِ التِي تُميتُ هذهِ الحشراتِ، ولعلكمْ رأيتمُ السياراتِ التِي تطوفُ الشوارعَ وتصدرُ ضبابًا كالدخانِ منْ آلاتٍ مثبتةٍ عليهَا. وهذَا الضبابُ أدويةٌ تقتلُ البعوضَ والذبابَ. كمَا أنَّ علَى الدولةِ أنْ ترشَّ مياهَ المستنقعاتِ والبركِ والمياهِ الراكدةِ، وأنْ يتحرَّى الناسُ النظافةَ، فَلا يُلقونَ القاذوراتِ والنفاياتِ في الأماكنَ المكشوفةِ، بلْ يجبُ أنْ يضعوهَا في أكياسٍ خاصةٍ منَ البلاستيك، ويسلموهَا لسياراتِ البلديةِ.
وقالَ ولدهُ خالد: يَا أبتاهُ، إنَّ هذهِ المكافحةِ التِي ذكرتهَا تقضِي على الحشراتِ التي هي على الأرضِ، فكيفَ تكافحُ الحشراتِ التي تطيرُ عاليًا، وتحطُّ على الأشجارِ، فلا تطولهَا الأدويةُ والعقاقيرُ؟ وأجابَ الأبُ: لقدْ تكفلَ اللهُ بفضلهِ بإنقاذنَا منْ هذهِ الحشراتِ. ألا ترَى هذهِ العصافيرَ السوداءَ التي تنطلقُ في الجوِّ كالطائراتِ منْ سرعتهَا، وترتفعُ، وتهبطُ، وتروحُ يمنةً ويسرةً وهي تزقزقُ وتصوِّتُ بصفيرٍ خاصٍ بهَا؟ قالَ الابنُ: أتقصدُ عصافيرَ السنونو؟ قالَ الأبُ: نعمْ، فهذهِ العصافيرُ أخذتْ اسمَهَا منْ صفيرهَا وزقزقتهَا، وهي منَ العصافيرِ المهاجرةِ. وسألَ الابنُ: ومَا معنَى العصافيرِ المهاجرةِ؟ قالَ الأبُ: ألا ترَى العصافيرَ العاديةَ كيفَ تجعلُ أعشاشهَا في البيوتِ، ولا تطيرُ إلا لمسافاتٍ قصيرةٍ، ثمَّ تعودُ إلى أعشاشِهَا؟ فهذهِ العصافيرُ تسمَّى العصافيرَ الدوريةِ، لأنهَا لا تغادرُ منطقتهَا وتبقَى بينَ البيوتِ، أمَّا العصافيرُ والطيورُ المهاجرةُ، فهِي التي لا تستقرُ في مكانٍ واحدٍ، فبعضهَا يُمضِي الصيفَ في البلادِ الحارةِ، فهِي تنتقلُ معَ اختلافِ الظروفِ الجويةِ كعصفورِ السنونو الذي يأتِي إلى بلادنَا في أوَّلِ الربيعِ، وقدْ بدَأ الجوُّ يصبحُ دافئًا. ومنَ الطيورِ المهاجرةِ طيورُ الكراكي التي يسميهَا بعضهم «اللقلقَ»، فهِي تهاجرُ منْ شمالِ الكرةِ الأرضيةِ إلى جنوبهَا، تطيرُ إلى الأجواءِ المناسبةِ لهَا، فإنْ حلَّ الشتاءُ في شمالِ الكرةِ، هاجرتْ إلَى هناكَ، فإنْ حلَّ في جنوبيِّ الكرةِ الأرضيةِ، انتقلتْ إليهَا. فهذهِ الطيورُ لا تستقرُ في مكانٍ واحدٍ على الأرضِ إلا إذَا كانَ الجوُّ مناسبًا لهَا.
وطيورُ السنونو تهاجرُ منْ بلادٍ إلى بلادٍ، ففِي مطلعَ الربيعِ تصلُ هذهِ العصافيرُ ذاتُ الجناحينِ الطويلينِ، والذيلِ الطويلِ، والرأسِ الصغيرِ، والمنقارِ المعقوفِ في نهايتهِ. وهذهِ العصافيرُ مَا أنْ تصلَ إلى بلادنَا حتَّى تبدأَ بناءَ أعشاشهَا على أطرافِ الجدران، وعلى رؤوسِ النوافذ، وعلى الحجارةِ البارزةِ، وتضعُ بيضهَا، ثمَّ تنطلقُ في الجوِّ صعودًا وهبوطًا، تصطادُ الحشراتِ كالبعوضِ ومَا شابهَ ذلكَ، وهي بكثرتهَا، وسرعتهَا، وخفةِ حركتهَا، وقدرتهَا على المناورةِ والالتفافِ، معتمدةً على رادارٍ إلهيٍّ جعلهُ في رؤوسهَا، فبينمَا تبدُو منقضةً سريعةً، وتصلُ إلى قبالةِ حائطٍ، أو عمودٍ، أو شجرةٍ، وتقولُ في نفسكَ: لا بدَّ أنهَا ستصطدمُ بمَا أمامهَا، ويكونُ ذلكَ سببَ موتهَا، إذْ بهَا تنحرفُ فجأةً دونَ أنْ تصابَ بأذًى، بفعلِ الاستشعارِ الذِي تحملهُ في رأسهَا، والذِي يوجهُ حركاتهَا، فتنجُو منْ موتٍ محققٍ.
وهي تنطلقُ بوساطةِ جهازِ الاستشعارِ الذِي تملكهُ في رأسهَا نحوَ البعوضِ فتصطادهُ دونَ أنْ تتوقفَ، وهكذَا تعلُو وتنخفضُ، وتنعطفُ يمنةً ويسرةً حيثمَا تكونُ هناكَ حشرةٌ أو بعوضةٌ في الجوِّ، فتلتقُمهَا بفمهَا متابعةً طيرانهَا.
وتابعَ الأبُ: إنَّ هذهِ الطيورَ يَا أبنائِي منْ أفضلِ طيورِ تنظيفِ البيئةِ، فهِي تقتلُ منَ الحشراتِ أضعافَ أضعافَ مَا تقتلهُ العقاقيرُ والأدويةُ، وتدافعُ عنْ بنِي البشرِ، لكنَّ المؤسفَ أنَّ بعضَ الجهلةِ منَ الشبابِ أو الأولادِ يحاولونَ اصطيادَ هذهِ الطيورِ، معَ أنهَا لا تؤذِي ولا تأكلُ منَ الحبوبِ شيئًا، فضلاً عنْ أنهُ لا يجوزُ أكلُ هذهِ الطيورِ، لأنَّ لهَا منقارًا معقوفًا.
وعلَى العكسِ منْ ذلكَ، فمنَ الأعمالِ الحميدةِ الجيدةِ أنَّ أحدَ هذهِ العصافيرَ اصطدمَ بسلكٍ معدنيٍّ رفيعٍ ممدودٍ، فسقطَ علَى الأرضِ، فسارعَ أحدُ الأولادِ فرفعهُ عنِ الأرضِ، ثمَّ جاءَ بصحنٍ منَ القشِّ فوضعهُ فيهِ، وجعلهُ وسطَ شجرةٍ، ولم تمضِ ساعةٌ حتَّى شُوهدَ العصفورُ وهوَ يرمِي بنفسهِ عنِ الشجرةِ ويطيرُ، وهكذَا يَا أولادِي ترونَ أنَّ اللهَ الذِي خلقَ البعوضَ كانَ رحيمًا بعبادهِ، فخلقَ لهُ طائرَ السنونو.